عين جالوت
[color=blue]أمة المسلمين منذ أن اتسعت بهم آفاق الأرض ، في القرن الهجري الأول ، كانوا هداة ينشرون الإسلام , ويوطنون العدل والسماحة ، يخرجون العباد من استعباد العباد ، إلى الحرية وعبادة رب العباد ، فكان ذلك من أسباب انفتاح الآفاق بين أيديهم ، وتأييد الله لهم.وما كاد يستقر بهم المقام حتى ينتشر بين أيديهم العلم والعمران ، فتأسست مدن كالكوفة والبصرة والفسطاط ، والقيروان وغيرها من مدن العلم ومحاوره , والعمارة ومفاخرها.
ولم تلبث دولة بني العباس أن ورثت دولة بني أمية في المشرق 133هـ 750م حتى حاول الرومان الشرقيون – جاهدين – استرداد ما حرره المسلمون من امبراطوريتهم في عصر الراشدين ، فباءت محاولاتهم بالفشل ، رغم الكر والفر الذي تبادلوه مع بني العباس والحمدانيين ، في ربوع آسيا الوسطى وشمال سوريا.
ثم جاءت الحملات الصليبية ، في وقت كان سلطان الخليفة اسميا على دويلات انتشرت فيما وراء النهر وديار بكر ، ووجود دولة العبيديين([1]) في مصر والشمال الأفريقي ، وملوك الطوائف بالأندلس ، فشغلت المسلمين قرنين من الزمان بين 490هـ 1096م إلى 690هـ 1291م.
وهي حملات اتخذت شعارها استرداد مهد النصرانية من بين أيدي المسلمين ، لكنهم لم يكونوا في سماحة عيسى بن مريم كلمة الله ، فعاثوا فسادا في هجماتهم البربرية ، ونشروا المذابح والنهب والسلب.
وقد نجح عماد الدين زنكي , وولده نور الدين محمود , ومن بعدهم صلاح الدين – رحمهم الله – في فل شوكتهم ، فاسترد بيت المقدس بعد نصره المؤزر في حطين 583هـ 1187م ثم استرد انطاكية 585هـ 1189م وحرر كثيراً من سواحل الشام.
ولم يكن صلاح الدين وقواد المسلمين بعيدين عن سماحة الإسلام حينما رفضوا الانتقام للمذابح التي شنها الصليبيون ، ولكن تركوهم يرحلون , اللهم إلا حاكم حصن الكرك الغادر ، الذي أصر صلاح الدين على قتله بيده بعد أسره ، لما تجرأ به على قوافل حجاج بيت الله في البحر الأحمر وبادية الأردن ، وما أعلنه من غزو المدينة النبوية براً وبحراً.
الطوفان القادم من الشرق :في غمار هذه المعارك والأحداث ، التي شغلت قلب العالم الإسلامي كانت هناك نذر ظهور إعصار بربري ، بدأ مرجل غليانه يرتفع في شرق آسيا ، حيث أعلن : تيموجين بن بيسوكاي تأسيس دولة المغول / 600هـ 1203م ، وسمى نفسه جنكيز خان.
وكان تيموجين مقاتلا شرسا ، ما لبث أن انضم تحت لوائه زعماء قبائل البراري حوله ، طعماً فيما ينالهم من الغنائم والسبي في ركاب غزاوته المدمرة الكاسحة ، التي كان فيها السلب والقتل والدمار والحرائق جنداً من جنده ، فنشر الرعب في أواسط آسيا حتى الخليج العربي قبل أن تسحق جحافلهم بغداد عاصمة الخلافة.
الموجة الأولى :وقد بدأت حجافل المغول أو التتار في مداهمة بلاد خوارزم وبخارى وسمرقند عام 617هـ 1220م ، فتخرب تحت سنابك خيولهم ، وبين يدي مقاتليهم ، نفائس العمائر المساجدية ، والمدارس والمكتبات العامرة بكريم المصنفات بين تخريب وتحريق.
وكان جزءا من يحاول الوقوف في وجه غزواتهم القتل والصلب والتمثيل بالجثث ، وتعليق الرؤوس والجثث على أبواب المدن المنهوبة.
ولقد كان شاهات خوارزم – قبل أن يجتاحهم التتار – يتصارعون فيما بينهم على ملك السلطنات والمدن المتجاورة ، تماماً كم فعل ملوك الطوائف في الأندلس – في نفس الزمان – حتى سقطت قرطبة في يد النصارى القشتاليين سنة 636هـ 1238م بعد أن نشرت الحضارة والعمران في غرب أوروبا.
ولم تلبث ضربات المغول أن عاجلت آخر شاهات خوارزم جلال الدين منكبرتي بالمطاردة من بلد الآخر , دون أن يجد نصيراً ممن كان يصارعهم على السلطات ,حتى غلب عليه الكمد والبكاء والنحيب إلى أن قتل غيلة في ديار بكر سنة 618هـ 1221م.
وبينما كانت آفاق آسيا ، فارس وديار بكر والأناضول ، تنوء من الطوفان الزاحف ، هلك جنكيز خان سنة 625هـ 1227م وانقسمت وراثته بين أبنائه الأربعة.
واضطلع (هولاكو) بن تيموجين بخطة إتمام التوسع المغولي في اتجاه الغرب ، فاقترب الخراب الداهم من قلب دولة الخلافة العباسية ، التي كان خلفاؤها رسوماً لا حول لهم ولا قوة ، بين بدي من اتخذوهم من الأتراك حماة لهم وحفاظاً عليهم يعزلون ويولون من يريدون.
وزرعت هجمات هولاكو الرعب حيث سارت : يبدؤها بالرسائل المدمدمة بالوعيد والويل والثبور لمن يعلن العصيان ، والأمان ـ الكاذب ـ لمن استكان وأطاع,فمن استسلم ضعفاً وهواناً ، لم تنجه طاعته من ظبات سيوف الغالبين .
وأما من حاول المقاومة حمية ودفاعاً عن دينه وعرضه لم يكن حالة بأسعد ممن ذل واستسلم ، ولكنه كان يلقي نوعاً متميزاً من القتل فريداً في بابه ، يبدأ بقطع أعضائه حياً جزءا جزءا , حتى إذا مات طاف الطبالون والزمارون برأسه,محمولة على الرماح في المدن المنهوبة.
مات المؤرخ ابن الأثير (630هـ 1232م) دون أن يشهد سقوط بغداد وما نالها من خراب ودمار ، لكنه ظل مدة يحجم عن وصف مذابح المسلمين على أيدي التتار منذ خروجهم ، لكنه عندما عزم على تسجيلها في تاريخه ، قال:"لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذا الحوادث ، استعظاماً لها , كارهاً لذكرها , فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين , ياليت أمي لم تلدني ، وياليتني مت من قبل حدوثها ، وكنت نسيا منسيا.
ومع بشاعة ما وصف مما حدث قبل وفاته بين 617هـ إلى 630هـ فإن ما جرى بعد ذلك تشيب لهوله الولدان.
كان زحف هولاكو وجيوشه سريعا ، ليس بين غارة وأخرى فرصة لالتقاط الأنفاس , وسرعان ما دهمت ألوفهم ـ أرتالاً هادرة مدمرة ـ بغداد الجميلة بمعاهدها وقصورها ومغانيها ، فلم ينج من هدمهم جدار , ولم يسلم من سيوفهم ورماحهم صغير أو كبير ، وتلوثت الأنهار بلون الدماء ومداد الكتب ، التي جعلوها جسوراً في النهر ، لتعبر عليها سنابك خيولهم..
روائع المصنفات المموهة بماء الذهب ، والمسطرة بالأحبار المعطرة من كنوز خزانات الكتب في القصور والمساجد ، والمدارس من نيسابور إلى بغداد.
أما الصراخ والدمار ، وبقر بطون الحبالى ، واقتطاع آذان النساء ورقابهن وأذرعهن ، لاستلاب حلي الذهب ، فحدث عنه ولا حرج.
وقتل الخليفة وأهله وخدمه ونساؤه شر قتلة ، بعد تعذيب رهيب وتمثيل بالجثث يعف اللسان عن ذكره.
في الطريق إلى مصر :واستمر زحف الطوفان غربا ، فلم تسلم من غشيانه حلب ودمشق وحمص ، وما حولها من مدن الشام ، يقود ألوفهم كوتوبوغا – أو كتبغا – كما يسميه مؤرخو العربية ، وكان نصرانيا ، ففرح لمقدمه نصارى الشام , واستعان بهم على التنكيل بالمسلمين ، فاستباحوا المساجد والمدارس والخوانق – دور اليتامى وأبناء السبيل ـ وعانوه في إذلال المسلمين.
وبلغت طلائعهم بقيادة "بيدار"عسقلان وغزة ، وعسكرت هناك ، ريثما وصل ركب رسل المغول إلى القاهرة ، يحملون رسالة هولاكو وقائده كتبغا إلى سلطان مصر المملوكي "سيف الدين قطز: .
[color:0371=maroon:0371]الرسالة والرسل :
وكانت الرسالة من شقين : شق ظاهر هو الرسالة المكتوبة ذات العبارة الملتهبة بالوعيد والنذير وعظائم الأمور.
وأما الشق الثاني : فكان فرقة من الدساسين ، انتشرت بين العامة في الأزقة والحارات ، ينثرون الدنانير بين يدي ضعاف النفوس ، لترويج أخبار الرعب القادم ، والخطر الداهم.
وكانت الرسالة : "من ملك الملوك شرقاً وغرباً : الخان الأعظم باسمك اللهم ، باسط الأرض ورافع السماء.
يعلم الملك المظفر قطز ، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية ، وما حولها من الأعمال : أنا نحن جند الله في أرضه ، خلقنا من سخطه ، وسلطنا على من حل به غضبه ، فلكم بجميع البلاد معتبر ، وعن عزمنا مزدجر.
فاتعظوا بغيركم ، وأسلموا إلينا أمركم ، قبل أن ينكشف الغطاء ، فتندموا ويعود عليكم الخطأ ، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد ، وطهرنا الأرض من الفساد ، وقتلنا معظم العباد.
فعليكم الهرب وعلينا الطلب ، فأي أرض تؤويكم ؟ وأي طريق ينجيكم ؟ وأي بلاد تحميكم ؟ فمالكم من سيوفنا خلاص ، ولا من مهابتنا مناص ، فخيولنا سوابق ، وسهامنا خوارق ، وسيوفنا صواعق ، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال ، فالحصون لدينا لا تمنع ، والعساكر لقتالنا لا تنفع ، ودعاؤكم علينا لا يسمع ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن قصد أماننا سلم ، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم ، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا.
وإن خالفتم هلكتم ، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم ، فقد حذر من أنذر.
فلا تطيلوا الخطاب وأسرعوا برد الجواب ، قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترمي نحوكم شرارها فقد أنصفناكم إذ راسلناكم : وأيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم
هذا الموضوع له تكمله
يتبع ....