[color=maroon] الإرهاب والتخذيل :
هكذا بدت الرسالة في صياغتها إلقاء الرعب في قلوب الأمراء والحكام ، بينما يعمل الدساسون الذين انبثوا في الحواري والأزقة ، على خط متواز مع الرسالة ، ينشرون بين العامة, ويهولون من شأن ما كان من مذابح جرت في بغداد وانطاكية وحلب وغيرها من المدن المستباحة.
وبذلك يحدث الانهبار في الدولة : من قمة الدولة إلى عامة الناس , وهو سلاح من أخطر أسلحة التتار ، التي فتكت بالبلاد التي اقتحموا أرضها , يسبقهم الرعب منهم ، لتسهل عليهم الغارة والنهب والسلب والتخريب.
واجتمع سيف الدين قطز سلطان المماليك في مصر ، مع أمراء المماليك يتداولون أمرهم ، ويتبنون موقعهم من ذلك الخطر المائل والزحف القادم , ولم يكن لهم إلا خيار بين أمور ثلاثة.
الاستسلام أو المواجهة بالقتال أو الخروج من مصر , وقد استبعد الأمراء الأمر الأول ، لما هو معلوم من غدر المغول بكل من طلب الأمان والاستسلام ، بشكل لا يقاومه جدال أو بيان.
وبقي خياران أمامهم : الخروج نحو المغرب نجاة بأنفسهم ، وهو خروج إلى مسافات بعيدة دونها مشقات ، فضلا عن خيبة أمل الشعب في حكامه وفرسان قيادته ، الفارين من وجه التحدي بجلودهم , وقد رفض هذا الخيار أيضا.
وأصبح الخيار الثالث مطلبا أعلنه قطز وركن الدين بيبرس في إباء وشمم : أعلناه بين الأمراء والقواد ، على أن يكون ذلك بالتجهز والخروج إلى العدو ، قبل أن يقترب من حدود مصر ، تفادياً لوقوع الفوضى في الجبهة الداخلية.
وكانت حيثيات هذا القرار والرأي : إما أن يكون النصر عالياً ، وهو المرجو من الله تعالى ، وإما الشهادة بشرف ، ولن يلام من طلب النصر فنال الشهادة.
وهكذا أعلن ركن الدين بيبرس وجوب قتل حملة الرسالة ، فقتلوا وعلقت رؤوسهم على باب زويلة ، الباب الجنوبي للقاهرة.
قيادات شعبية :
وأما شرذمة الدساسين : فقد تصدت لها القيادات الشعبية ، والتي كانت تتمثل في ركنين جديرين بالاحترام والتبجيل.
الركن الأول : العلماء ذوو الرأي والهمة , وعلى رأسهم العزبن عبدالسلام ذلك العالم الجليل الذي لم يهب سلطانا ولا حاكما ، ولم يكتم رأيا بين يدي حاكم.
الركن الثاني : هم فتية الفداوية ، الذين اشتهرت مواقعهم مع الصليبيين في دمياط والمنصورة ، أيام حملة لويس التاسع – 646هـ - 1248م ، وما بعدها ، وعلى رأسهم عز الدين شيحا صاحب الحيل والملاعب الخداعية والفدائية الباهرة التي أوقعت بلويس التاسع وجنده.
وقد كان بين العلماء والفداوية مشاورات وتخطيط ، نجح في تحقيق التماسك بين طوائف التجار والحرافيين والعامة ، وتركوا للمماليك مهمة الاستعداد الحربي ، وبذلك تم القضاء على الدساسين في هدوء كامل , فلم يحس بهم أحد.
وكان للعز بن عبدالسلام مواجهة مع أمراء المماليك ، حيث أبى أن تفرض الضرائب على التجار والحرفيين والعامة ، قبل أن تؤخذ صحاف الذهب والفضة ، وحلي الأميرات – الخواتين والخوندات – من القصور ومناظر المماليك في جزيرة الروضة.
وكادت أن ترتكس الحركة لرفض بعض الأمراء ما رآه العز بن عبدالسلام لولا شجاعة قطز وركن الدين بيبرس ، اللذين واجها المماليك بفدائيتهما وإصرارهما وبدءا بنفسيهما.
سوق السلاح :
وفي شارع سوق السلاح – خلف سوق الرماحة بحي القلعة – سهر السلاحيون ليل نهار في صناعة السيوف ورؤوس الرماح والسهام ، وضربت الدروع والخوذات ، وقصمان الزرد ، ودبابيس المبارزة ، ومعاول الحصار ، حتى يكون السلاح والعتاد جاهزاً بين يدي الحملة([2]).
الخطة وفرق الجند :
وقبيل خروج الحملة ، اجتمع مجلس الحرب ، حيث برزت عبقرية ومكر ركن الدين بيبرس البندقداري ، واتفق قطز على أن يقود بيبرس طلائع الجيش ، بينما يكون قطز على رأس قلب الجيش مع اتصاله بأمراء المجنبات ، وبثه العيون على دروب فلسطين ، حتى لا يفاجؤوا بأنفسهم بين براثن – كتبغا – وقواده.
وخرجت الجيوش مشيعة بدعاء العامة بالنصر ، وفي صفوف الجيش كان لكل فرقة قائدها من أمراء المماليك ، وإمامها من العلماء والدعاة ، يلهبون عزائم المقاتلين بسير المجاهدين الأولين ، ويقضون ردحاً من الليل بين الذكر وتلاوة القرآن والصلاة.
وجاءت العيون إلى بيبرس بخبر بمواقع – بايدار – وطلائع المغول ، فصبحهم بيبرس بقواته ، وقضى عليهم ، بينما أفلت نفر منهم فراراً لينذروا كتبغا ويطلبوا النجدة.
كتبغا وثورة دمشق :
وانطلقت جيوش الإسلام المصرية شمالاً على طريق الساحل في فلسطين ، قوات بيبرس في المقدمة ، يتبعها وعلى اتصال بها قطز وسائر الامراء مع باقي فرق الجيش.
فلما جاءتهم الأنباء عن كتبغا بقواته في بعلبك ، انعطفت الجيوش الإسلامية شرقا لتقطع الطريق على كتبغا وقواته التي كان قوامها جموع المغول ، تعززها كتائب من الكرج والأرمن.
وبلغت كتبغا – في بعلبك – كارثة بيدار وجنده ، فغضب وثار وتعبأ للسير إلى نهر الأردن عبر الجليل.
إلا أن سكان دمشق من المسلمين – هبوا فجأة – في وجه حامية دمشق من المغول ، ومن يعاونهم من نصارى الشام ، وخربوا الدور والكنائس انتقاماً للمساجد والمدارس والدور التي خربوها.
فأعاقت هذه الثورة كتبغا عن الانطلاق ، ريثما يخمد هذه الثورة ، مما أفقده سرعة المبادرة.
واستفاد قطز وبيبرس من ذلك التأخير ، فاتجها إلى الناصرة ليلقوا المغول على غرة وتعبئة كاملة مدبرة بليل ، واختفت كتائب المسلمين عند تلال عين جالوت.
جحيم المعركة :
وفي صبيحة يوم الخامس عشر من رمضان 659هـ النصف الثاني من سبتمبر – أيلول سنة 1260م أقبلت جموع التتار لتفاجأ بالجيش الإسلامي يقود طلائعه ركن الدين محمود بيبرس البندقداري في تعبئة متحركة : قوامها الفرسان والرماحة ، بينما حملة السيوف والسهام يناوشون على هيئة كراديس صغيرة تلذغ وتفر , لدغ العقارب , لدغا تتهاوى معه الرقاب.
ووقع الصدام ثقيلا في يوم شديد الحرارة ، لم يستعد له التتار بتعبئة المياه ، التي لم يعرفوا مصادرها ، بينما كانت الجيوش الإسلامية قد تزودت لذلك اليوم الكريه ، واختاروا موقع النزال والصدام.
وزاد من حرارة الجو ما ارتفع من النقع وغبار سنابك الخيل والبغال ، والتهب القتال ساعة غرت كتبغا , فواجه كتائب بيبرس بكل قواته ، ليقضي على ما يرى من قوات المسلمين.
وهنا بدأت جموع الكتائب في مناورة انسحاب وتقهقر , أطمع كتبغا فتابع الهجوم بثقل الجيش ، كي يتخلص من لدغ كراديس بيبرس السريعة التي فتكت فتكا ذريعا بأطراف جموع المغول ، وخطفاتها السريعة التي تدربوا عليها في ميدان ـ القبق ـ ([3]) عند قبة الفداوية بالعباسية – الآن.
وفجأة واجه كتبغا الكارثة الماحقة ، عندما توقفت قوات بيبرس عن القهقرى ، بينما خرجت قوات قطز من كمينها ، في تنظيم رهيب تلعب فيه الميمنة والميسرة أطراف الكماشة ، بينما يقوم القلب الكثيف العدد والعدة بدور المطرقة ، وجموع بيبرس بدور السندان ، ثم يتبادلان مهمة الطرق والطعان.
واإسلاماه :
ولم يكن القتال سهلاً ، وذلك لشراسة مقاتلي التتار والكرج والأرمن ، مما سبب بعض الاضطراب في قوات المماليك لفترة ، ردها إلى نظامها صياح العلماء والدعاة ، وهم يحملون بسيوفهم على أعداء الله ، واستبسال حملة الرايات والألوية لتظل مرفوعة خفاقة.
وأرى ذلك قطز فخلع بيضته – خوذته – وانقض في جمع من المغاوير يتبعونه ، وهو يصيح واإسلاماه ... واإسلاماه ...
وحاول كتبغا التخلص من هذا الهلاك ، ليعيد ترتيب فلوله ، ولكن فرسان بيبرس ، كانوا أسرع إليه ، وهو في غاية اليأس والذهول ، كبلوه بالسلاسل وحملوه إلى خيمة السلطان ، بينما كان قطز ساجداً خاشعاً , يعفر وجهه بتراب المعركة , وفرت فلول الناجين من المعركة أمام قوات قطز وبيبرس ، ليستعينوا بما تركوا من حاميات في المدن ، وحاولوا الكرة على قوات المماليك ، وعند بيسان كانت الجولة الثانية أشرس من الأولى ، حيث قاتل المغول قتال اليائس.
ولكن صيحات قطز : واإسلاماه ، بينما يجول بسيفه بين الجحافل يخطف الرؤوس ويشق الهامات ، وصوته تردده الأصداء في ساحة المعركة ، حتى كانت الهزيمة الثانية خلال أيام لجيش المغول الذي لم يذق طعم الهزيمة من قبل ، وبارد سيف الدين قطز ، فأرسل إلى دمشق والقاهرة ، يبث البشر بنصر الله ، بينما كان ركن الدين محمود بيبرس البندقداري يلاحق فلول المغول شمالاً ليطهر بلاد الشام ، وتمكن خلال شهر من دخول حلب وتحريرها.
وتقدم قطز إلى دمشق فدخلها وسط أفراح أهلها وأهازيجهم بالنصر المبين.
وقد حاول كثير من مؤرخي الشرق والغرب أن يسأل : ماذا لو تخطى المغول سيناء ، وانساحوا عبر مصر إلى الشمال الأفريقي ؟؟ هل كانت رايات الإسلام لتعود إلى الظهور.
والجواب : أن مؤرخي الغرب لا يعرفون عمق عقيدة الإيمان التي كانت عماد البناء في الجيوش الإسلامية التي خرج علماؤها مقاتلين دعاة ، فضلا عن إيمان القادة بأن لا نصر إلا بالإيمان الذي يعمر القلوب ويحميها من الوهن.
والمؤمنون يعلمون أن الله يدافع عن الذين آمنوا ، ومن هذا البعد كانت حملة جند مصر فنصرهم الله وشد أزرهم.
[color:a6fa=maroon:a6fa]ودخل المغول الإسلام :
لم تنقض على تلك المعارك حقبة من زمان حتى بدأ أمراء المغول يدخلون في دين الله ، وبدؤوا في عمران ما خربوا من مدن الإسلام ، فبدؤوا يشيدون المساجد والمدارس والمشاهد في سمرقند وبخارى وخوارزم ، ما تزال مآذنها في جمهوريات آسيا الوسطى شامخة وقبابها لامعة ، وأهلها يقاومون نظم الماركسية الغازية إلى أن شاء الله.